آخر المواضيع

vendredi 13 février 2015

04:41

أحاديث الولي في النكاح

جاءت الشريعة بما يحفظ للخلق حقوقهم، ويصون أعراضهم، ومن ذلك الحق الذي جعله الله بيد الأولياء، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بـ(الولاية على المرأة في النكاح)؛ حفاظا على حق المرأة من الضياع، ومع ذلك لم يسمح الشارع للأولياء بالتعسف في استعمال هذا الحق في إهدار حق المرأة ومصادرة رأيها في شريك حياتها، فنهى عن العضل، وجعلهن أحق بأنفسهن بالمعروف.


وفي الأحاديث اعتبار لحق الولي في النكاح، وفي بعضها اعتبار لحق المرأة أيضا، مما جعل في ذهن بعض الناس تداخلاً أو تعارضا بين الأحاديث، وبيان ذلك فيما يلي:

الأحاديث في حق الولي:

حديث أبي موسى الأشــعري رضي الله عنه أن رســول الله صلى الله عليه وسلم قـال: (لا نكاح إلا بولي) رواه أبو داود وغيره بأسانيد موصولة ومرسلة، وكلها صحيحة كما قال الحاكم في المستدرك.
حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فإن دخل بها فالمهر لها بما استحل من فرجها ، فإن اشتجروا ، فالسلطان ولي من لا ولي له) رواه الترمذي، وحسنه وقال: "والعمل في هذا الباب على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي) عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبدالله بن عباس ، وأبو هريرة ، وغيرهم".

الأحاديث في حق المرأة في الاستئذان والاستئمار:
في صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها)، وفي رواية: (الأيم أحق بنفسها)، فهل معنى الحديث أنها أحق بنفسها من وليها فتتولى النكاح بنفسها من دون وليها؟ أم أن الحق لا زال لوليها ؟ وكيف نجمع بين هذين الظاهرين المتعارضين؟

قال النووي: "وقوله صلى الله عليه و سلم "أحق بنفسها" يحتمل من حيث اللفظ أن المراد أحق من وليها في كل شيء من عقد وغيره، كما قاله أبو حنيفة وداود، ويحتمل أنها أحق بالرضا أي لا تُزوَّج حتى تنطق بالإذن بخلاف البكر، ولكن لمَّا صح قوله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولى) مع غيره من الأحاديث الدالة على اشتراط الولي، تعين الاحتمال الثاني".

ومن خلال قوله صلى الله عليه وسلم: (أحق) يتبين أن الحق مشترك بين المرأة وبين وليها، فهي أحق بنفسها لكن مع إذن وليها وبهذا يزول التداخل بين الحقين، ويرتفع التعارض بين ظواهر النصوص السابقة، على أنه لا بد من الإشارة إلى أن هذه المسألة من مسائل الخلاف بين الفقهاء ليس هذا موضع بيانه، فقد قال بعض الفقهاء بجواز أن تزوج المرأة نفسها من غير وليها، وهو رأي لأبي حنيفة وأبي يوسف، وبعضهم ربما نسب القول إجمالا الى الأحناف وهذا خطأ، ففي المذهب خلاف في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: صحة العقد، وعدم الصحة، وتوقف الصحة على إذن الولي، ولكن لما كان هذا القول معارضا للنص حكى بعض أهل العلم إجماع الصحابة على اشتراط الولي في النكاح إشارة إلى عدم اعتبار الخلاف مع النص حتى قالابن المنذر: إنه لا يُعرف عن أحد من الصحابة خلاف في ذلك.

04:40

عبد الله بن مسعود

 هو الإمام الرباني أبو عبد الرحمن عبد الله بن أمِّ عبدٍ الهُذَليُ، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخادمه وصاحب سواكه ونعليه، أسلم قديمًا، وكان أحد السابقين الأولين، فكان سادس ستة في الإسلام! وكان أول من جهر بالقرآن بمكة، وهاجر الهجرتين، وشهِد بدرًا والمشاهد بعدها، وكان من سادة الصحابة وأوعية العلم وأئمة الهدى، وكان من نبلاء الفقهاء والمقرئين.
لازم النبي - صلى الله عليه وسلم - وحفظ من فيه سبعين سورة، وقال - صلى الله عليه وسلم - : "من أحب أن يقرأ القرآن غضًا كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد".
نظر عمر مرة إلى ابن مسعود - وقد قام - فقال: كُنَيف [أي: وعاء] مُلئ علمًا!
وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: أتينا حذيفة فقلنا له: حدثنا عن أقرب الناس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديًا ودلاً وسمتًا فنأخذ عنه ونسمع منه، قال: هو ابن مسعود!
وعن حارثة بن مضرب قال: قُرئ علينا كتاب عمر: "إني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرًا،وعبد الله بن مسعود معلمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - من أهل بدر، فاقتدوا بهما واسمعوا، وقد آثرتكم بعبد الله ابن مسعود على نفسي".
منهج ابن مسعود في الرواية:
كان عبد الله بن مسعود من المكثرين من الرواية عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك فقد كان شديد التحري في الأداء وكان يشدد في الرواية، ويزجر تلامذته عن التهاون في ضبط الألفاظ، ولا يجرؤ على الجزم بأن ما ينقله هو نفس اللفظ النبوي تورعًا واحتياطًا، فعن أبي عمرو الشيباني قال: كنت أجلس إلى ابن مسعود حولاً لا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا استقلته الرِّعدة وقال: هكذا أو نحو ذا أو قريب من ذا!
ومن منهجه في الرواية - رضي الله تعالى عنه – أنه كان ينهى عن رواية ما يفوق ذهن العامة ويربكهم حفظًا لديانتهم، فقد كان يقول: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم".
وقد انتفع به من التابعين خلق كثير، وأخذوا عنه علمًا جمًا، حتى صاروا هم علماء الدنيا من بعده، فحدثوا عنه في الآفاق، ومن أشهر طلابه: علقمة، والأسود، ومسروق، والربيع بن خُثيم، وشُريح القاضي، وأبو وائل، وزِرُّ بن حُبيش، وعَبِيدة السلماني، وعمرو بن ميمون، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو عثمان النَّهدي، والحارث بن سويد، وربعي بن حراش، وآخرون، كما روى عنه ابناه عبد الرحمن وأبو عبيدة وابن أخيه عبد الله بن عتبة وامرأته زينب الثقفية.
واتفق موته – رضي الله تعالى عنه – بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين وله نحو من ستين سنة.

04:39

الجمع بين أحاديث صيام شعبان

جاء في صيام النبي صلى الله عليه وسلم لشهر شعبان عدد من الأحاديث، منها: ما في صحيحمسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم أر النبي -صلى الله عليه وسلم- صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا.


فما وجه الجمع بين قولها: (كان يصوم شعبان كله)، وبين قولها: (كان يصوم شعبان إلا قليلا)؟.
يمكن إجمال كلام أهل العلم في التوفيق بين الحديثين في وجهين:

الوجه الأول:

أن العبارة الثانية (إلا قليلا) تفسير للعبارة الأولى (كله)، وأن المقصود أنه كان يصوم معظمه لا كلَّه، وهو أسلوب عربي معروف، فقد نقل عن ابن المبارك أنه قال: جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول: صام الشهر كله، فيكون من باب المجاز، والقرينة المانعة من استعمال الكل على الحقيقة، هي الروايات التي صحت في نفي استكماله لصيام شهر غير شهر رمضان.

وقيل المراد بقولها (كله) أنه كان يصوم من أوله تارة ومن آخره أخرى ومن أثنائه طورا فلا يخلي شيئا منه من صيام ولا يخص بعضه بصيام دون بعض.

وعلى هذا؛ فلا يشرع صيام شعبان كله، ولكن يسن صيام أكثره، وقد كان ابن عباس يكره أن يصوم شهراً كاملاً غير رمضان، وروى عبد الرزاق في كتابه عن ابن جريج عن عطاء قال : كان ابن عباس ينهى عن صيام الشهر كاملا ويقول : ليصمه إلا أياما.

الوجه الثاني:

أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم أحيانا معظمه، وربما أتمه كله حينا آخر، فلم يكن يداوم على إكمال صيامه كله، لدفع توهم وجوبه كشهر رمضان.
قال الحافظ: والأول هو الصواب، (أن المقصود صيام أكثره) ويؤيده رواية عبد الله بن شقيقعن عائشة عند مسلم وسعد بن هشام عنها عند النسائي ولفظه : ولا صام شهرا كاملا قط منذ قدم المدينة غير رمضان.

ويدل لهذا روايات كثيرة منها:

ما رواه البخاري عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً قط غير رمضان، ويصوم حتى يقول القائل لا والله لا يفطر ويفطر حتى يقول القائل لا والله لا يصوم.

وما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا صلى ليلة إلى الصبح ، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان.

وبهذا يزول التعارض الظاهر بين الروايات، وينتظم المعنى على قولين، أحدهما جواز صيام شعبان كله، والثاني شرعية صيام معظمه، وهو الراجح الذي ذهب إليه أكثر شراح الحديث،كالنووي وابن حجر وغيرهما.

04:38

التبكير إلى صلاة الجمعة

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ المَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) متفق عليه.

وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر) رواه البخاري.
ليس في مقدور غالب المسلمين أن يتصدقوا كل أسبوع بناقة أو بقرة أو كبش ونحو ذلك، ولكن الله عز وجل الكريم الجواد منحنا فرصة أسبوعية للفوز بأجر يعدل التصدق بمثل ذلك، لمن جاء مبكرًا إلى صلاة الجمعة، التي تعد محفلا أسبوعيا يجتمع فيه المسلمون للتعبد والتعارف والتعلم والتآلف، فمن راح إلى الجمعة في الساعة الأولى (فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً...).
قال الإمام ابن الأثير في المقصود من الرّوَاح إلى الجمعة: "أي مشى إليها وذهب إلى الصلاة، ولم يرد رواح آخر النهار، يقال راح القوم تروحوا إذا ساروا أي وقت كان، وقيل أصل الرّوَاح أن يكون بعد الزوال، فلا تكون الساعات التي عددها في الحديث إلا في ساعة واحدة من يوم الجمعة، وهي بعد الزوال، كقولك: قعدت عندك ساعة، وإنما تريد جزءًا من الزمان، وإن لم تكن ساعة حقيقية التي هي جزء من أربعة وعشرين جزءًا مجموع الليل والنهار" ا.هـ.
ورغم أن العلماء اختلفوا في تحديد معنى الساعات المذكورة في الحديث؛ إلا أن هدف التبكير واضح، وسيتحقَّق لك إن شاء الله بذهابك قبل الصلاة بساعة أو أكثر أو أقل، لكن المهم أن لا تتأخَّر حتى يصعد الإمام إلى المنبر، وإلا راح الأجر كله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر).
فلنحرص على إحياء هذه السُّنَّة العظيمة، بتطبيقها وحث الناس عليها، حتى ننال ثوابها العظيم، وحتى ننال أجر إحياء سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم.

04:38

السعي في قضاء حوائج الناس

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ الله فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فرَّجَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ) رواهالبخاري ومسلم، وعند الطبراني بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (..وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ - يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ - شَهْرًا)، وفي رواية أخرى عند الطبراني أيضاً: (.. وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَثْبَتَهَا لَهُ، أَثْبَتَ الله عَزَّ وَجَلَّ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ).

كثيرة هي الأعمال التي يحتاج كل إنسان أن يقوم بها في حياته؛ خاصة إذا كان مسئولاً عن عائلة وأسرة؛ فهناك أعمال اقتصادية، وأخرى اجتماعية، وثالثة إدارية، ورابعة صحية، وغير ذلك من واجبات يحملها أي إنسان كل صباح ومساء، وقد يعجز المرء عن القيام بجميع هذه الواجبات، فيقع الضرر عليه أو على مَنْ يحبُّ، وهنا يبرز دور هذه السُّنَّة النبوية الجميلة التي بين أيدينا، وهي سُنَّة السعي لقضاء حوائج الناس.
وقد يظنُّ البعض أن مساعدة الناس لا تكون إلا بالمال، أو يظن أن اكتفاءه بإعطاء المال يُغنيه عن السعي والتحرك مع إخوانه لقضاء حوائجهم؛ ولكن الواقع أن "السعي" لقضاء الحاجات من أَجَلِّ الأعمال، وأعظمها عند الله جل وعلا؛ إذ أن ذلك يفوق أجر المعتكف المنقطع لعبادة الله تعالى.
فالواضح أن المقصود هو "السعي" لإتمام الحاجة، والحاجة قد تكون في إنهاء بعض الإجراءات القانونية التي تتطلب وجاهة، أو في شراء أشياء ومتطلبات، أو في المصاحبة في سفر أو زيارة، أو في صناعة شيء أو إصلاحه أو إعداده، أو غير ذلك من الأشياء التي تحتاج إلى جهد.
كما أن أهل المروءة والنجدة لا يمكنهم أن يروا مضطراً إلا أجابوه، ولا محتاجاً إلا أعانوه، ولا ملهوفاً إلا أغاثوه، فإن هذا من أصول المروءة كما قال ميمون بن مهران: "أول المروءة طلاقة الوجه، والثاني التودد، والثالث قضاء الحوائج"، وقال سفيان الثوري: "المروءة: الإنصاف من النفس، والتفضل".
ولأن المسلم يقوم بقضاء هذه الحاجات ابتغاء مرضاة الله تعالى، فإن الله عز وجل يُكافئه بالمساعدة في حاجته يوم احتياجه؛ سواء في الدنيا بتيسير من يكون له عوناً في قضاء حوائجه وتسهيل أعماله، أو في الآخرة بتثبيت الأقدام على الصراط، فواقع الأمر بهذه الصورة أن المستفيد الأكبر من قضاء الحاجات هو قاضي الحاجة نفسه وصاحب الوجاهة الذي سعي مع غيره لمساعدته وقضاء مصلحته، وهذا هو المقصد الرئيس من هذه السُّنَّة النبوية.

04:37

علي بن أبي طالب

هو أبو الحسن الهاشمي علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ، وُلد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح، فرُبِّي في حِجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفارقْه، وكان ممن سبق إلى الإسلام، وصاهر المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وجاهد في الله حق جهاده، وصار من فرسان الإسلام، وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المشاهد إلا غزوة تبوك، فقال له في سبب تأخيره له بالمدينة: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟).

نهض بأعباء العلم والعمل، وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد، وشهد له النبي - صلى الله عليه وسلم بالجنة -، وقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه" رواه الترمذي وابن ماجه، وقال: (لا يحبُّك إلا مؤمنٌ ولا يبغضك إلا منافق) رواه الترمذي والنسائي، ولم يزل بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - متصديًا لنشر العلم والفُتيا، وكان أحدُ أصحاب الشورى الذين نص عليهم عمر. ومناقبه كثيرة حتى قال الإمام أحمد: لم يُنقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلي.
جهوده في خدمة السنة النبوية :
كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إمامًا عالما متحريًا مستوثقًا في الأخذ والتحمُّل لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بحيث إنه يَستحلِف من يحدِّثه بالحديث! ويقول في ذلك: "كنتُ إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وكان إذا حدثني عنه غيرُه استحلفته، فإذا حلف صدقته!".
وقد روى عن النبي - صلى الله عليه و سلم - علمًا كثيرًا، فكان يقول: "سلوني سلوني! سلوني عن كتاب الله تعالى، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أَنَزلت بليل أو نهار!"، ورُوي أن عليًا ذُكر عند عائشة - رضي الله تعالى عنها -، فقالت: "أما إنه أعلم من بقي في السُّنة".
ومع كثرة علمه الذي تحمله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يُرْوَ عنه إلا خمسمائة وستة ثمانين حديثًا فقط، وهو أقل مما رُوِي عن بعض الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسباب منها: انشغاله بالقضاء والإمارة والحروب التي جعلته لا يتفرغ للفُتيا وعقْد مجالس التحديث التي كانت سببًا في انتشار علم بعض الصحابة، كابن مسعود وابن عباس وابن عمر.
منهجه في الرواية والتحديث :
كان من أبرز ملامح هذا المنهج تَوقي الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو أحد الرواة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) رواهالبخاري ومسلم، وكان يقول: "إذا حدثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلأن أخِرَّ من السماء أحبُّ إليَّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتُكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة!" رواهالبخاري ومسلم، ولذلك كان ابن عباس يقول: "إذا جاءنا الثبْت عن علي لم نعدل به".
وكان من منهجه – رضي الله تعالى عنه – أيضًا في الرواية؛ عدم رواية المنكر وغير المشهور من الحديث الذي يشتبه على عامة الناس ولا تدركه عقولهم، فقد ورد عنه أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذَّب اللهُ ورسولُه؟!).
وكان - رضي الله تعالى عنه - لا يحدِّث مَن لا يثق به من أهل الأهواء والبدع، فكان يضِنُّ بما عنده من العلم ومن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم – عمَّن لا يستحق أن يضع علمه عنده، وفي نصيحته لتلميذه كُميل بن زياد إشارة لذلك، حيث قال له: "إن هاهنا - وأشار إلى صدره - علمًا لو أصبتُ له حَمَلةً!".
وقد استشهد أمير المؤمنين في سابع عشر رمضان من عام أربعين وسِنُّه ستون سنة أو أقل أو أكثر بسنة أو سنتين رضي الله عنه.

04:35

دعاء ركوب الدابة حضرًا وسفرًا

عن علي بن ربيعة رضي الله عنه قال: شَهِدتُ عَلِيًّا رضي الله عنه أُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا، فلما وضع رجله في الرِّكَاب قال: "بِسْمِ اللَّهِ" ثَلاَثًا، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا، قَالَ: "الحَمْدُ لِلَّهِ". ثُمَّ قَالَ: "{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} (الزخرف:13-14)"، ثُمَّ قَالَ: "الحَمْدُ لِلَّهِ" ثَلاَثًا، "اللَّهُ أَكْبَرُ" ثَلاَثًا، "سُبْحَانَكَ إِنِّي قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ"، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْجَـبُ مِنْ عَبْـدِهِ إِذَا قَالَ: رَبِّ اغْفِـرْ لِي ذُنُوبِي، إِنَّهُ لاَ يَغْفِـرُ الذُّنُوبَ غَيْرُكَ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني.

وعن عبد الله ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اسْتَوَىَ عَلَىَ بَعِيرِهِ خَارِجاً إِلَىَ سَفَرٍ، كَبّرَ ثَلاَثاً، ثُمّ قَالَ: (سُبْحَـانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنّا إِلَىَ رَبّنَـا لَمُنْقَلِبُونَ، اللّهُمّ إِنّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَـا هَذَا الْبِرّ وَالتّقْوَىَ، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللّهُمّ هَوّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنّـا بُعْدَهُ، اللّهُمّ أَنْتَ الصّاحِبُ فِي السّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُـوءِ الْمُنْقَلَبِ، فِي الْمَالِ وَالأَهْلِ)، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنّ، وَزَادَ فِيهِنّ: (آيِبُـونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبّنَا حَـامِدُونَ) رواه مسلم في صحيحه.
يُعَلِّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نذكر اللهَ تعالى في كل أحوالنا؛ ومن ذلك أنه كان يذكره عند ركوبه للدابَّة، سواء في ذلك الحَضَرُ والسفر، فحديث علي بن أبي طالب فيه ذكر دعاء ركوب الدابة في الحَضَر، وحديث عبد الله بن عمر فيه ذكر دعاء ركوب الدابة في السفر، وكلاهما يشتركان فيما ورد في الآية القرآنية في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} (الزخرف:13-14)، مع اختصاص دعاء السفر بطلب التخفيف والتهوين مما يرافق السفر عادة من عناء ومشقة، واختصاص دعاء الحَضَر بطلب المغفرة من الله جل وعلا.
فما أسهل هذه السُّنَّة وأعظمها، وما أجمل أن نحافظ عليها عند ركوبنا للسيارات أو الحافلات، أو القطارات أو الطائرات، أو حتى المصاعد الكهربائية، أو غير ذلك من وسائل الانتقال.
فلنحرص على إحياء هذه السُّنَّة المباركة، بتطبيقها وتعليمها لأبنائنا، وحث الناس عليها، حتى يحفظنا الله تعالى في حِلِّنا وارتحالنا، وحتى ننال أجر إحياء سنة من سنن نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم.

04:35

دعاء الخروج من المنزل

عن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيتي قطُّ إلا رفع طَرْفَهُ إلى السماء فقال: (اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ، أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ، أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ، أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ)، وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، ولاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. قَالَ: يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟) رواهما أبو داود في سننه، وصححهما الألباني.

يخرج المسلم كلَّ يوم من بيته للقيام بما يتعلق به من أعمال ومسئوليات؛ تتعلق بعضها بالمعاش والكسب وحاجات البيت ومتطلَّباته، وأخرى بواجباته تجاه رحمه وجيرانه وأصدقائه، وثالثة بالمجتمع الذي يعيش فيه، وفي كلِّ خروجٍ له من المنزل يكون مُعَرَّضًا للتعامل مع طوائف مختلفة من الناس؛ لهذا كان من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقف مع نفسه وقفة قبل أن يخرج من بيته، يسأل اللهَ فيها أن يُيَسِّر له هذه التعاملات، فلا يَضرُّ أحدًا، ولا يتعرَّض للضرر من أحدٍ، ولا يظلم أحدًا، ولا يتعرَّض للظلم من أحدٍ، وهكذا.
إنها وقفة جميلة تشرح الصدر قبل أن يُقدِم المسلم على تعاملاته مع الناس، وهي سُنَّة كريمة من سنن نبينا صلى الله عليه وسلم، نقلتها لنا أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، حيث قالت: "ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيتي قطُّ إلا رفع طَرْفَهُ إلى السماء فقال:.."، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحافظ على قول هذا الدعاء ولم يتركه قطُّ، وفي هذا دليل على أهميته وفضله.
فإذا أُضِيف إلى ذلك فائدة ومزِيّة أخرى وهي: "الوقاية من الشيطان" - كما في رواية أنس بن مالك رضي الله عنه -، فقد تحققت المحاسن والفضائل كلها، ولهذا فإن الأخذ بالروايتين معا يجمع الخير والتوفيق للعبد في جميع أعماله خلال يومه وليلته، بفضل الله تعالى ومنّه وكرمه.
فحافظ على أن تقول كلما خرجت من بيتك: (بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، ولاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ .. اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ، أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ، أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ، أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ).
هكذا عرفنا هديه صلى الله عليه وسلم عند خروجه من منزله، وهكذا ينبغي لنا أن نفعل، فنحفظ أنفسَنا من شرور الإنس والجن، ونحفظ غيرَنا من شرورنا.
فلنحرص على إحياء هذه السُّنَّة المباركة، بتطبيقها وحث الناس عليها، حتى ننال ما يترتب عليها من فضائل، وننال أجر إحياء سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم.

04:34

عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها

هي حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت خليفته أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - في شوال بعد وقعة بدر، فأقامت في صحبته ثمانية أعوام وخمسة أشهر حيث مات عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي بنت ثماني عشرة سنة.

وكانت عائشة - رضي الله تعالى عنها - أحب نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه؛ فقد روى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة)، قلت: من الرجال؟ قال: (أبوها)، قلت: ثم من؟ قال: (عمر)، فعدَّ رجالاً".
وما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بين سَحْرِها ونَحْرِها [أي: بين صدرها وعنقها]، وما دُفِن إلا في بيتها، وقال عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) رواه البخاري.

وقد برَّأها الله تعالى من فوق سبع سموات مما رماها به أهل الإفك، في آيات يتلوها الناس إلى قيام الساعة.
وكانت كريمة سخية، قال عروة بن الزبير: "إن معاوية بعث إلى عائشة بمائة ألف، فوالله ما غابت عليها الشمس حتى فرقتها، فقالت مولاة لها: لو اشتريت لنا من ذلك بدرهم لحمًا؟ فقالت: ألا ذكَّرتِني؟ .. وفضائلها كثيرة جدًا - رضي الله تعالى عنها -.
جهودها في حفظ الدين وخدمة السنة النبوية :
كانت - رضي الله عنها - من أكبر فقهاء الصحابة، والمرجع الأول في الحديث والسنة، والفقيهة الأولى في الإسلام، وكان فقهاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجعون إليها في المعضلات فيجدون عندها الأجْوِبة، وقد تفقه بها جماعة من الصحابة والتابعين وحدَّثوا عنها.
قال مسروق بن الأجدع التابعي الإمام القدوة: "والذي نفسي بيده لقد رأيت مَشْيَخة أصحابمحمد - صلى الله عليه وسلم - يسألونها عن الفرائض!!".
وقال الإمام الزُّهري: "لو جُمِع علمُ عائشة إلى علم جميع أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعِلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل".
وقال عنها عروة بن الزبير - ابن اختها أسماء -: "ما رأيت أحدًا من الناس أعلم بالقرآن، ولا بفريضة، ولا بحلال وحرام، ولا بشِعر، ولا بحديث العرب، ولا النسب من عائشة رضي الله عنها".
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنه قال: "ما أَشْكل علينا أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثٌ قطُّ فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا".
ومن جهودها - رضي الله عنها - في حفظ الدين وخدمة السنة النبوية أنها كانت حريصة على بثِّ ما عندها من علم وعدم كتمان ما سمعته في بيت النبوة من الحكمة والموعظة الحسنة، فحفظت للأمة بضعة آلاف من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها ألفان ومائة وعشرة أحاديث في الكتب الستة.
وممن روى عنها من الصحابة: عمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، والسائب بن يزيد، وزيد بن خالد الجهني وغيرهم رضي الله عنهم.
وممن روى عنها من التابعين: مسروق بن الأجدع، وعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد النخعي، وسعيد بن المُسيِّب، وعبد الله وعروة ابنا الزبير (ابنا أختها)، والقاسم ابن محمد ابن أبي بكر (ابن أخيها)، ومُطرِّف بن عبد الله بن الشِّخير، وعمرو بن ميمون، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وزِرّ بن حُبَيش، وأبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وعطاء بن يسار، وابن أبي مُليكة، وطاوس، ومجاهد بن جبر، وعِكرمة، ونافع مولى ابن عمر، وعلقمة بن وقاص الليثي، وعلي بن الحسين بن علي (زين العابدين)، والشَعْبي، ومن النساء: عَمرة بنت عبد الرحمن، ومعاذة العدوية، وخيرة أم الحسن، وصفية بنت أبي عبيد، وخلقٌ كثير.
قال الشعبي: "كان مسروق إذا حدَّث عن عائشة قال: حدثتني الصديقةُ بنتُ الصديق، حبيبةُ حبيبِ الله تعالى، المبرأةُ من فوق سبع سموات".
وفاتها:
توفيت - رضي الله تعالى عنها - في رمضان سنة سبع وخمسين، وقيل ثمان وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه -، ثم شُيِّعت جِنازتها في غَسَقِ الليل على أضواء المشاعل، حيث أَمَرت أن تُدفن ليلاً، ودُفنت في البقيع مع صويحباتها حسب وصيتها لابن أختهاعبد الله بن الزبير، وذلك بعد أن عاشت ملء الحياة والسمع والبصر خمسًا وستين أو ستًا وستين سنة.

04:33

أبو هريرة .. وعاء السنة

Résultat de recherche d'images pour "‫أبو هريرة‬‎"هو الحافظ الفقيه عبد الرحمن بن صخر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان اسمه في الجاهلية عبد شمس بن صخر، فسماه رسول الله - صلى الله عليه و سلم - عبد الرحمن، وكُنيته أبو هريرة؛ لأنه وجدَ هِرَّة فحملها في كُمه، فقيل له: أبو هريرة.

وقد أسلم أبو هريرة بدَوس، ثم قدِم المدينةَ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارجٌ نحو خيبر، فلحقه بها وشهدها معه.
كان أبو هريرة رجلاً فقيرًا من أصحاب الصُّفَّة، ذاقَ الجوع والفاقة. والصُّفَّة: موضع مُظلَّل في المسجد كان يأوي إليه الغرباء وفقراء الصحابة - رضي الله عنهم - ومَن ليس له منزل، وكان منهم أبو هريرة - رضي الله عنه - وكان رئيسَهم.
وذكر أبو هريرة ما كان من حاله في ذلك الوقت فقال: "لقد رأيتُني أُصرع بين منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحجرة عائشة، فيقال: مجنون، وما بي جنون، ما بي إلا الجوع!".
وبعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - صَلُح حاله وكثُر ماله، ووَلي إمرة المدينة، وكان يمرُّ في السوق يحمل الحُزمة وهو يقول: "أوسعوا الطريق للأمير!"، وكانت فيه دعابة، رضي الله تعالى عنه.

وكان - رضي الله عنه - كثير الذكر والتعبد، وروي عنه أنه قال: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم اثني عشر ألف مرة، وذلك على قدر ذنبي!"، وروي أنه كان له خيط فيها ألفا عقدة لا ينام حتى يسبح به. وقال أبو عثمان النهدي: "تضيَّفتُ أبا هريرة سبعًا [أي: كنتُ ضيفًا عليه في بيته سبع ليالٍ أو سبعة أيام]، فكان هو وامرأتُه وخادمه يعتقبون الليل أثلاثًا [أي يتناوبون قيام الليل]؛ يصلي هذا، ثم يوقظ الآخرَ فيصلي، ثم يوقظ الثالث".
جهوده في حفظ السنة:
كان أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه - من أوعية العلم ومن كبار أئمة الفتوى، فهو مُسنِد الصحابة بلا نزاع؛ حيث زادت مرويَّاته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خمسة آلاف وثلاث مئة حديث! بعض هذه الأحاديث حفظها عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ورواها عنه مباشرة، وبعضها رواها عنه بواسطة بعض الصحابة الكبار كأبي بكر وعمر وأبيّ بن كعب - رضي الله تعالى عنهم أجمعين -. روى البخاري في (صحيحه) عن أبي هريرة أنه قال: "ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ أكثر حديثًا عنه مني إلا ما  كان منعبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب".
وقال الحاكم (أبو أحمد): "كان من أحفظ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وألزمهم له صحبة على شِبَع بطنه، فكانت يده مع يده يدور معه حيث دار إلى أن مات ولذلك كثر حديثه".
وقد أثنى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على حرص أبي هريرة على طلب العلم والخير؛ فقد روى البخاري في (صحيحه) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قلت: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أولَ منك؛ لما رأيتُ من حرصك على الحديث، أسعدُ الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قِبل نفسه".
وقد أثنى كبار الصحابة - رضي الله عنهم – على حفظه وعلمه، فكان ابن عمر – رضي الله عنهما - يقول: "يا أبا هريرة كنتَ ألزمُنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلمنا بحديثه"، رواه الحاكم في (المستدرك).
وقال طلحة بن عبيد الله: "لا أشك أن أبا هريرة سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم نسمع".
وكذلك أثنى على حفظ أبي هريرة وعلمه الأئمةُ من حُفَّاظ الحديث، فقد روى الأعمش عن أبي صالح: "ما كان أفضلَهم [أي الصحابة]، ولكنه كان أحفظ".
وقال الشافعي: "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره".

ولما استنكر بعضُ الناس كثرةَ تحديث أبي هريرة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رغم أنه لم يدرك من صحبته إلا سنوات قلائل، وبلغته تلك المقالة عنهم تأثر وقال: "إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدِّثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث أبي هريرة، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفقٌ بالأسواق، وكنتُ ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني، فأشهدُ إذا غابوا، وأحفظ إذا نسَوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عملُ أموالِهم، وكنتُ امرأً مسكينًا من مساكين الصُّفَّة أعي حين ينسون.
وقد نال أبو هريرة – رضي الله عنه – هذه الدرجة في الحفظ وعدم النسيان ببركة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم – له، فقد روى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) عن أبي هريرة - رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال في حديث يحدِّثه: "إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول"، فبسطتُ نَمِرة عليّ، حتى إذا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيتُ من مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك من شيء!".
وروى البخاري في (صحيحه) عن أبي هريرة – رضي الله عنه - أنه قال: قلت: يا رسول الله! إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه؟ قال: "أبسط رداءك"، فبسطته، قال: فغرف بيديه ثم قال:"ضُمَه"، فضممتُه فما نسيت شيئًا بعده!.
وروى النسائي في (السنن الكبرى) أن رجلاً جاء زيدَ بن ثابت فسأله عن شيء، فقال له زيد: عليك أبا هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ذات يوم ندعو الله ونذكر ربنا - خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس إلينا، فسكتنا، فقال: "عودوا للذي كنتم فيه"، قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمِّن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة فقال: "اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي هذان، وأسألك علمًا لا ينسى" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم –: "آمين!" فقال: يا رسول الله! ونحن نسأل الله علمًا لا ينسى، فقال: "سبقكم بها الغلام الدوسي".
ولم يمت أبو هريرة – رضي الله عنه – حتى بثَّ في الناس ما تحمله من العلم، وبلغ عدد تلامذته المئات، قال البخاري: روى عنه ثمانمائة نفس أو أكثر.
وفاته:
توفي أبو هريرة سنة ثمان وخمسين، قاله جماعة، وقال آخرون: سنة تسع وخمسين، وقيل: سنة سبع وخمسين - رضي الله عنه -.
 

04:28

إن الله يحب الرفق

الرفق واللطف واللين صفاتٌ يحبُ الناسُ أن تتوفر فيمن يتعامل معهم، وإن أولى الناس بالتخلق بهذه الصفات هم الدعاة والمربُّون الذين يوجِّهون الناس ويدُلُّونهم إلى سبيل الهدى والرشاد، فالمؤمن بطبعه يألف ويؤلف، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحاسنهم أخلاقًا الموطئون أكنافًا الذين يَألفون ويؤلفون وليس منا من لا يألف ولا يؤلف». وهكذا كانت طريقته صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الناس، ما غضب لنفسه قط، ولا ضاق صدره بضعفهم وجهلهم ونقصهم، حتى مع أشد الناس بغضًا له! روى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السامُّ عليكم! [والسام هو الموت، والمراد الدعاء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالهلاك!]. قالتعائشة: ففهِمْتُها فقلتُ: وعليكم السامُّ واللعنة! قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"مهلاً يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله". فقلت: يا رسول الله أوَ لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد قلتُ: وعليكم".

قصة الحديث:
كان اليهود يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسألونه ويتكلمون معه، ومن رحمته - صلى الله عليه وسلم - وسَعة صدره أنه كان يحسن استقبالهم تأليفًا لقلوبهم ورغبةً في إسلامهم، ولكنهم لخبثهم وفساد قلوبهم وحسدهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقابلون إحسانه بالإساءة؛ فإذا دخلوا عليه لحنوا في القول  كأنهم يلقون السلام، وحقيقة الأمر أنهم يدعون عليه بالموت والهلاك!! فيقولون: (السام عليكم!)، والسام هو الموت، فسَمِعتهم أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها يومًا فلم تتمالك نفسها من الغضب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت تدعو عليهم: (وعليكم السام واللعنة!) وفي رواية في البخاري أنها قالت: (عليكم، ولعنكم الله وغضب الله عليكم!). ولكن الرسول الكريم ذي الخلق القويم والشمائل العالية لم يعجبه ذلك منها، فقال لها: "مهلاً يا عائشة" أي: ترفقي ولا تعجلي، ثم قال: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله" أي أنه سبحانه يحب لِينَ الجانب في القول والفعل والأخذَ بالأسهل، وذلك ضد العنف.
ثم علمها كيف يكون الرد على الكافرين إذا سمعتهم يدعون بالموت في صورة مَن يلقي السلام بأن تقول: "وعليكم" فإنه بذلك تكون قد أعادت الدعوة عليهم فيستجاب لها فيهم ولا يستجاب لهم فيها، وفي الوقت ذاته لا تتلبس بكلام لا ينبغي قوله.
والإسلام مع أنه دين القوة والبأس والجهاد، إلا أنه يضع كل ذلك في موضعه، وإذا كانت الأمور تمضي باللين والسكينة، فلا ينبغي أن يُستخدم العنف والقوة.
ولأن طبيعة النفس تميل للغضب وتحب الانتقام، فقد حثّ الرسول على حسن الخلق عمومًا وعلى الرفق خصوصًا، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه" رواه مسلم، وقوله: "يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه" رواه مسلم. وقوله لأشج عبد القيس"إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلمُ والأناة" رواه مسلم. وحديث أنس في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه خيرُ تطبيقٍ عملي لخلق الرفق.
وقد تضمن هذا الحديث مسألةً فقهية هي:
حكم السلام على الكافر ابتداءً، وحكم رد السلام عليه إن سَلَّم هو. وأكثر العلماء من السلف والخلف على تحريم الابتداء ووجوب الرد، فيقول المسلم في رده على سلام الكافر: وعليك أو: وعليكم، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه" رواه مسلم.
قال الإمام النووي في (شرح مسلم): "النهي للتحريم، فالصواب تحريم ابتدائهم".
ولما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم"، متفق عليه، ويمكن للمسلم أن يستعمل في تحية  الكافرين كلامًا يفيد التحية من غير لفظ السلام.
وأخيرًا، فإن صاحب القلب الطيب الرفيق الرحيم، وصاحب البسمة والوجه الطليق، والمتحلي بالأخلاق الحسنة هو الذي يمكنه أن يؤثر في قلوب الناس وعواطفهم ويسير بهم نحو الإيمان والكمال، فما أجدرنا أن نتحلى بالرفق ولين الجانب في جميع تعاملاتنا حتى نحظى بالقرب من مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم في الجنة! 

04:27

أبو بكر الصديق

هو عبد الله بن أبي قحافة عثمان التيمي القرشي، أفضل هذه الأمة بعد نبيِّها، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومؤنسه في الغار، وصدِّيقه الأكبر، ووزيره الأحزم.

جهوده في خدمة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
كان أول من احتاط في قبول الأخبار؛ فقد روى أصحاب السنن عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال جاءت الجدة إلى أبى بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال: ما لكِ في كتاب الله تعالى شيء، وما علمتُ لكِ في سنة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فارجعي حتى أسأل الناس [يعني أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدسَ. فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر.
فلم يكتفِ أبو بكر رضي الله تعالى برواية  المغيرة بن شعبة وهو صحابي جليل ثقة، وإنما استظهر بثقة آخر ليطمئن قلبُه إلى إسناد الرواية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو بذلك يؤسس لمنهجٍ في النقل والرواية يقوم على التثبت والاحتياط وعدم التساهل.
وقد ذكر الإمام الذهبي في (تذكرة الحفاظ) أن أبا بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - حدَّثَ رجلاً حديثًا، فاستفهمه الرجل إياه، [أي: كأن الرجل استغرب كلام الصدِّيق واستنكره]، فقال أبو بكر: "هو كما حدثتُك، أي أرض تُقِلُّني إذا أنا قلت ما لم أعلم؟".
وهذه الأخبار تظهر لنا بجلاء  كيف كان الصديق - رضي الله تعالى عنه -  يتحرى في نقل العلم، فلم يكن يروي إلا ما تيقن من ثبوته، ولا يتيح لنفسه الفرصة للتدخل برأيه أو فهمه الخاص، وهذه أيضًا إحدى المعالم التي أسسها في منهج النقل والرواية، والذي حمل الصديق على التحري في الرواية هو الخوف من الوعيد اللاحق بمن ينسِب شيئًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقله؛ فقد روى الإمام أحمد في (مسنده) بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن كذبًا علي ليس ككذبٍ على أحدٍ، ألا ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".
وهذا المنهج الذي أسَّسه الصدِّيق - رضي الله تعالى عنه - القائمُ على التحري والتثبت في النقل والرواية عن رسول الله - صلى عليه وسلم - كان خليقًا بأن يتبعَه وينسجَ على مِنواله مَن جاء بعده من الرواة والحفاظ والمحدثين.
إذن فالصدق الذي تميز به الصديق رضي الله تعالى عنه هو الشرط الأول للاشتغال برواية حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبدونه يُعَرِّض المشتغل برواية الحديث نفسه للوعيد. قال الإمام الحافظ الذهبي في كتابه (تذكرة الحفاظ) ناصحًا المشتغلين بعلم الحديث وروايته: "... فحُقَّ على المحدث أن يتورع فيما يؤديه، وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته، ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم جِهبِذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن، وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم، مع التقوى والدين المتين والإنصاف، والتردد إلى مجالس العلماء والتحري والإتقان وإلا تفعل:
                               فدع عنك الكتابة لست منها      ولو سوَّدت وجهك بالمداد!
قال الله تعالى عز وجل: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) فإن آنست يا هذا من نفسك فهمًا وصدقًا ودينًا وورعًا، وإلا فلا تَتَعَنَّ، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأى ولمذهب فبالله لا تَتْعب، وإن عرفتَ أنك مخلِّطٌ مخبِّطٌ مهمِلٌ لحدود الله - فأرحنا منك! فبعد قليل ينكشف البهرج وينكبُّ الزغل ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله! فقد نصحتُك، فعلم الحديث صَلِفٌ. فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدتُ أن لا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب!!".
وهكذا كان الصدِّيق رضي الله تعالى عنه رأسَ الصادقين والحفاظ في الأمة والذي إليه المنتهى في التحري فيما يحدث به عن الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - حتى وافته المنية لثمانٍ بقَين من شهر جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة للهجرة النبوية، وله ثلاث وستون سنة.

04:26

السواك مطهرة للفم

اهتمت الشريعة الإسلامية بالطهارة في جميع نواحيها وحثت عليها، ومن ذلك تطهير الفم والأسنان، وفي هذا السياق جاء الإسلام ليعلِّم الناس طرقاً معقولة لتنظيف أفواههم, في وقت كانوا يستخدمون فيه أساليب علاوة على قذاراتها، فإنها تلوث الأسنان وقد تضر بها.

فمنذ عهد الرومان وحتى العصور الوسطى انتشرت عادة المضمضة بالبول، حيث كانت نبيلات الرومان يفضلن البول الآتي من إسبانيا، فإن لم يتيسر استعضن عنه ببول الثيران, وكان بعض الأطباء في أوروبا يوصون بمضغ قلب حية أو ثعبان أو فأرة مرة كل شهر من أجل نقاء أسنانهم.
وفي هذه الأجواء جاء الإسلام ليأمر أتباعه بمجموعة من الوصايا تفوق كل ما توصل إليه الطب الحديث من أمور للوقاية من نَخَر الأسنان والمحافظة على صحة الفم ونظافته، فأنّى للّويحة السنية (طبقة البلاك)التي تسبب نخر الأسنان وتقيحات اللثة أن تتشكل لدى مسلم يلتزم بالسِّواك عند وضوئه وصلاته، وعند قيامه من النوم، وبعد طعامه، اتباعا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي ترويه عنه السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - : (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) رواه البخاري.
وقد أثبتت الأبحاث العلمية وجود ما لا يقل عن (182) نبتة أو شجرة مختلفة الفصائل، تستخدم أعوادها لتحضير السواك, من هذه الأشجار ما لا يقل عن (158) نبتة في قارة أفريقيا وحدها, وأشهر هذه الأشجار على الإطلاق وأكثرها شيوعاً واستخداماً هي شجرة الأراك، التي أوصى النبي - صلى الله وعليه وسلم - بها.
ويؤكد الباحثون أنه عند فحص قطاع عرضي من عود الأراك، فإنه يتكون ثلاث طبقات متعاقبة:
أولها: طبقة خارجية: وهي عبارة عن نسيج فليني.
ثانيها: طبقة وسطى: وهي عبارة عن نسيج خشبي، وهما يشكلان الجزء الخارجي الذي يحمي الطبقة الثالثة.
ثالثها: طبقة داخلية: وهي عبارة عن ألياف سليلوزية رائعة البناء, وهي مرتبة وفق نظام دقيق، في حزم متراصة بجوار بعضها، أشبه ما يكون بفصوص ثمرة الليمون, تنطوي كل حزمة على عشرات الألياف الدقيقة، لتكوِّن معاً أكمل فرشاة طبيعية لدرء الخطر المحدق بالأسنان.
ومن فوائد السواك الطبية أيضا أنه يحتوي على مادة مضادة للجراثيم شبيهة بالبنسلين، وهي ذات تأثير شديد في القضاء على الجراثيم، وتقضي على خمسة أنواع على الأقل من الجراثيم الممرضة والموجودة بالفم.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل ليتهجّد يشوص فاه بالسواك، قبل أن يكتشف العلم الحديث أن أهم أوقات السواك هو عند الاستيقاظ من النوم؛ لأن بعض النخرات تحدث في الفم خلال النوم، كما تترسب بعض المركبات من اللعاب محدثة القلح على الأسنان بسبب ركودة اللعاب أثناء النوم.
وقد جاء في الأحاديث الصحيحة العديد من المناسبات التي كان يستخدم فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - السواك, وهي حالات مستمرة ودائمة طوال اليوم والليلة, وهذا يتناسب مع التراكم المستمر للويحة السنية, وبالتالي فإن الأسنان تحتاج إلى تنظيف مستمر.
وقد أكد العلم الحديث أيضا فاعلية سواك الأراك في القضاء على الجراثيم والبكتيريا التي تسبب التسوس وأمراض اللثة، ومن خلال المقارنة بين السواك وبين الفرشاة والمعجون يتضح لنا أن للسواك فوائد صحية للفم والأسنان تفوق ما استحدث من أدوات وأدوية تستعمل في نظافة الفم والأسنان.
وإضافة إلى ما سبق فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستخدم السواك على لسانه "يُمرِّره على لسانه", وهذا يتطابق تماماً مع الإرشادات الطبية الحديثة، والتي تؤكد ضرورة تنظيف اللسان؛ حيث ثبت علميًّا أن اللسان أخصب مكان في الفم لنمو شتى أنواع البكتريا الضارة, لاسيما المنطقة الخلفية (قاعدة اللسان)؛ لأن المنطقة الأمامية من اللسان تحتكّ دائماً بالأسنان وسقف الفم مما يعمل على تنظيفها من هذه البكتريا بصفة دائمة, كما أن شقوق الحليمات الذوقية التي تغلفها تعتبر أقل غوراً وأقل تجعداً, بعكس المنطقة الخلفية (قاعدة اللسان) التي تفتقد لهذا, فشقوقها أكثر غوراً وتجعداً, ولا شك أن هذه البكتيريا الضارة تندفع إلى داخل جسم الإنسان مع أي وجبة قادمة، وقد تسبب هذه البكتريا بعض التقرحات للسان.
كل هذا وغيره من دلائل إعجاز السنة النبوية يشهد بأن ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أفعال وأحكام وتوجيهات إنما هي تشريعات إلهية أوحاها إليه العليم الحكيم, وهي أحكام نافعة محاطة بالحكمة, قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر: 7).

04:25

فشكر الله له فغفر له

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( بينما رجل يمشي بطريق ، وجد غصن شوك ، فأخذه ، فشكر الله له فغفر له ) رواه البخاري ومسلم .


وفي رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال : ( مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق ، فقال : والله لأنحّين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم ، فأدخل الجنة ) رواه مسلم .


وفي رواية أخرى : ( لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق ، كانت تؤذى الناس ) .


وفي مسند أحمد : ( قال لأرفعن هذا لعل الله عز وجل يغفر لي به )


معاني المفردات
يتقلّب في الجنة: يتنعّم فيها.
ظهر طريق : وسط الطريق.
فشكر الله له : تقبّل فعله وجازاه به خيرا.


تفاصيل القصة
تمتاز الشريعة الإسلاميّة بالشمولية والاهتمام بجميع قضايا الحياة ، من خلال ما قرّرته من أحكام وآداب جاءت لتتناول كل ما يحقّق مصالح الناس في معاشهم ومعادهم ، ويسهم في رقيّ السلوك وتهذيب الأخلاق ، وينقل إلى مستوى المسؤولية ، بعيداً عن معاني الأثرة والأنانيّة والمنفعة الشخصيّة .


وعلى هذا الأساس ربّى النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه ، فأثمر جيلاً على مستوى عالٍ من الأدب الراقي والسلوك المهذّب ، يسعى الفرد فيه لمصلحة الجميع .


وفي هذا الحديث يحكي لنا النبي – صلى الله عليه وسلم – قصّة أحد الناس الذين تملّكهم الحرص على الآخرين ، رجلٌ لم نقف على تفاصيل حياته ، ولعلّه يكون من عامّة الناس ، إلا أنه كان حريصاً على عدم أذيّتهم أو إلحاق الضرر بهم .


فبينما هو يمشي في بعض حاجته ، أبصر في وسط الطريق غصن شجر مليء بالأشواك ، فاستوقفه ذلك ، ثم فكّر في الأذى الذي قد يسبّبه وجود مثل هذا الغصن على الناس ودوابّهم ، فقال في نفسه : " والله لأنحّين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم " ، وبكل رجاءٍ أردف قائلا : " لعل الله عز وجل يغفر لي به " .


عملٌ قليلٌ في نظر الناس ، قد لا يُكلّف من الجُهد أو الوقت شيئاً ، لكنّ الله تعالى بواسع رحمته وعظيم كرمه جعل ما فعله سبباً في مغفرة ذنوبه ودخول الجنة ، استحقه بنيّته  الحسنة ، ولولا فضل الله ما أُثيب .

وقفات مع القصّة
إن القضيّة الأساسيّة التي تناولها الحديث هي سعة رحمة الله وفضله ، فكان التجاوز عن ذنوب ذلك الرجل والصفح عنها مكافأة له على يسير عمله ، وما ذلك إلى لعظم تلك الرحمة الإلهيّة .


كما يدلّ الحديث على مكانة أعمال القلوب ، فإن أفعال العباد وإن اشتركت في الصورة الظاهرة فإنها تتفاوت بحسب من يقوم في قلب صاحبها من معاني الإخلاص والصدق وصفاء النيّة تفاوتاً عظيماً ، ويؤيّد ذلك  ما جاء في حديث البطاقة المشهور ، وفيه أن رجلاً يوم القيامة تُوضع له بطاقة تحتوي على كلمة التوحيد في كفة ، وجميع سجلاّت ذنوبه في كفّة أخرى ، ومع ذلك تثقل البطاقة وتطيش السجلات على كثرتها واتّساعها ، وإنما حدث له ذلك لما قام في قلبه من تحقيق معاني التوحيد .


ومن القضايا التي جاء بها الحديث إعطاء الطريق نوعاً من الحقوق والدعوة إلى العمل بها ، فإن طرق الناس ملك للجميع ومسؤوليّتها مشتركة بين جميع أفراد المجتمع ، وهذه سابقةٌ حضاريّة تعكس اهتمام الإسلام بحماية الممتلكات العامّة ونظافتها ورعايتها ، على أساسٍ من الوازع الديني .


ومن مظاهر اهتمام الإسلام بهذا الجانب الحيويّ ، بيان فضائل هذا السلوك الراقي من خلال عددٍ من الأحاديث ، فقد جاءت البشارة بالمغفرة والجنّة في سياق القصّة ، إضافةً إلى أحاديث أخرى تجعل هذا الفعل من جملة الأعمال الصالحة التي تدلّ على إيمان صاحبها ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال : ( الإيمان بضع وسبعون شعبة ، فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) رواه مسلم ، وكذلك جعل الإسلام ذلك الفعل باباً عظيماً من أبواب الصدقة ، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال : ( كل سلامى – أي مفصل - من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس : - ثم ذكر جملةً من الأعمال وفيها : - ويميط الأذى عن الطريق صدقة ) رواه البخاري .


وفي المقابل جاء الوعيد الشديد على من ينتهك حقوق الطريق ويجعلها موطناً للقاذورات والفضلات ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( اتقوا اللاعنين ، قالوا : وما اللاعنان يا رسول الله ؟ ، قال : الذي يتخلّى في طريق الناس أو ظلهم )والمقصود أنه مستحقّ لغضب الله تعالى وذمّ الناس لإفساده الطريق وحرمانه لهم من التمتّع في أماكن مواطن الراحة كظلّ الأشجار ونحوها .


أما القضيّة الثانية التي تجدر الإشارة إليها فهي ما ورد في نصّ الحديث من شكر الله لفعل ذلك الرجل ، فمن صفات الله تعالى : ( الشكور ) ، ومعناها كما قال الإمام ابن الجزري في النهاية : " الشكور هو الذي يزكو عنده القليل من أعمال العباد فيضاعف لهم الجزاء " ، وفي هذا المعنى يقول ابن القيّم في نونيّته :
              وهو الشكور فلن يضيّع سعيهم    لكن يضاعفه بلا حسبان
        
ولفتةٌ أخيرة جاء بها الحديث ، وهي أن من علّق رجاءه بالله لم يخيّب الله رجاءه ، وذلك مأخوذ من قول الرجل : ( قال لأرفعن هذا لعل الله عز وجل يغفر لي به ) ، ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي ) متفق عليه .

04:24

كسر عظم الميت ككسره حيا

اعتنت شريعتنا الغراء بالإنسان أعظم عناية، وكرمته أيما تكريم، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} (الإسراء:70), ولم تنته عناية الشريعة بالإنسان بانتهاء حياته، بل امتدت إلى ما بعد موته، فجعلت حُرمة الميت كَحُرْمة الحيّ، فحرَّمت أن يُوطأ قبره أو تُقضى عنده الحاجة أو تُوضع القاذورات بِقرب قبره، فضلاً عن حرمة حرق جثته أو نبش قبره.

وبين يدينا حديث نبوي عظيم يؤكد تلك العناية الممتدة ويؤيدها، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا) رواه أحمدوأبو داود وابن ماجه، وقال ابن دقيق العيد: إسناده على شرط مسلم.

معنى الحديث

هذا الحديث العظيم يدل على حرمة التعدي على الميت كما يحرم التعدي على الحي، يقول الحافظابن حجر في شرحه لهذا الحديث: "يستفاد منه أن حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في حياته"، ويقول الإمام الطيبي: "إشارة إلى أنه لا يهان ميتا، كما لا يهان حيّا"، ويقول الإمامالباجي: "يريد أن له من الحرمة في حال موته مثل ما له منها حال حياته، وأن كسر عظامه في حال موته يحرم كما يحرم كسرها حال حياته".

قصة الحديث

روى ابن منيع بإسناده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجنا في جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا جئنا القبر فإذا هو لم يفرغ، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم على شفير القبر وجلسنا معه، فأخرج الحفار عظما - ساقا أو عضدا - فذهب ليكسرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكسرها، فإن كسرك إياه ميتا ككسرك إياه حيا، ولكن دسه في جانب القبر)، وكذا رواه الإمام السيوطي في حاشية أبي داود.

مسائل وأحكام

يمكن الاستدلال بهذا الحديث على جملة من المسائل والأحكام، نذكر منها:

- حرمة بيع أعضاء الميت: إذ أن حرمة جسد المسلم تمتد إلى ما بعد وفاته كما يدل على ذلك الحديث؛ ولذا لا يجوز الاعتداء عليه بأي نوع من أنواع الأذى، سواء كان ذلك ببيع أعضائه أو التصرف فيها، لأن الواجب في جسد المسلم بعد موته تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ثم دفنه، وفي حال بيع أعضائه أو التصرف فيها إسقاط لهذه الواجبات.

- حرمة تشريح الجثة: يحرم تشريح جثة الميت المسلم وجعلها محلاً للتدريب والتعليم، فإن هذا مناف لتكريم الله له، وأما وجود الحاجة لتشريح الجثث للبحث العلمي، فهذه الحاجة يمكن أن تتحقق بجثث غير المعصومين كالكافر الحربي والمرتد عن الإسلام.

- كسر عظم الميت عن غير عمد ليس فيه قصاص أو دية: إذا انكسر عظم الميت أثناء دفنه أو عند دفن شخص آخر في نفس القبر بعد أن تبلى عظامه فليس في ذلك قصاص ولا أرش، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله مؤيدا لذلك: "المراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة، لا في مقدارها، بدليل اختلافهما في الضمان والقصاص ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت"، والله أعلم. 

نموذج الاتصال

Nom

E-mail *

Message *

Traduction ترجمة

التسميات